صدمة السنوار- حماس تفاجئ العالم وتُربك حسابات إسرائيل

المؤلف: محمود سلطان10.16.2025
صدمة السنوار- حماس تفاجئ العالم وتُربك حسابات إسرائيل

من قلب حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، تنطلق المفاجآت وتطل علينا الأحداث غير المتوقعة، فبالإضافة إلى زلزال السابع من أكتوبر/تشرين الأول المدوي، والصمود الأسطوري الذي أبهر العالم، تفاجئ الحركة العالم مجددًا بصدمة أخرى، لم تخطر ببال خبراء التحليل السياسي ولا مستشرفي المستقبل، ولم تمر حتى في أذهان أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية، المعروفة بخبرتها العميقة ومهنيتها العالية.

صندوق أسود

في الوقت الذي كانت فيه التوقعات شبه حتمية، تشير إلى أن الحركة قد حسمت أمرها بتنصيب خالد مشعل خليفة "محتملًا" لإسماعيل هنية، الذي استشهد في طهران الأسبوع الماضي، يأتي قرار الحركة المفاجئ باختيار السنوار، ليقوض من جديد الثقة في الأساطير التي رسختها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية - والأمريكية بطبيعة الحال- والتي صورت نفسها بقدرة خارقة على إحصاء أنفاس أي قيادة سياسية في العالم.

إن آليات وقنوات الفرز والاختيار لرئيس المكتب السياسي للحركة، ليست معقدة على الإطلاق، ولا تجري في نطاق ضيق، على نحو يجعلها "كهنوتًا سياسيًا" محاطًا بالسرية المطلقة وحراسة مشددة تحول دون الاطلاع عليه، فالاختيار النهائي يقرره مجلس شورى حماس الموقر، المؤلف من خمسين عضوًا، وهو هيئة استشارية رفيعة المستوى، تتألف من مسؤولين منتخبين بعناية من قبل أعضاء حماس في أربعة فروع رئيسية: غزة الصامدة، والضفة الغربية الأبية، والشتات المنتشر، والأسرى البواسل في السجون الإسرائيلية.

فهي إذن، لوحة فسيفسائية واسعة النطاق، ومنفتحة نسبيًا على الاختراق الأمني، ومع ذلك بقيت عصية على الاختراق، تمامًا كأنفاق غزة، صندوقًا أسود مغلقًا بإحكام على المراقبة والتنصت، فيما تعتبر تل أبيب عاصمة عالمية لتكنولوجيا التجسس، ومصدرًا رئيسيًا لها، بل تعتبر دولة الجاسوسية الأولى بامتياز، والتي لم يسلم من شرورها، حتى حليفتها الاستراتيجية، الولايات المتحدة الأميركية، عندما زرعت أجهزة مراقبة متطورة للهواتف المحمولة، بالقرب من البيت الأبيض، ومواقع حساسة أخرى في جميع أنحاء واشنطن، وفق ما كشفت عنه صحيفة بوليتيكو الشهيرة في 9 ديسمبر/كانون الأول 2019.

لغز الاختيار

لا يمكن لأحد، حتى هذه اللحظة، في هذا العالم المذهول من مفاجأة البديل الذي قدمته حماس، أن يقدم تفسيرًا قاطعًا ومنطقيًا للغز الكامن وراء هذا الاختيار، ودلالاته العميقة بشأن قرار نقل المركز الرسمي لسلطة حماس إلى قلب غزة، في حين أن العديد من القيادات الرسمية للحركة كانوا يتمتعون بحرية الحركة في الخارج في السنوات الأخيرة، بمن فيهم هنية وخالد مشعل، وكانوا يحظون بحماية أو حصانة "عرفية" غير رسمية، لكونهم بمثابة الوسيط السياسي في أية مفاوضات محتملة بين الجانبين: الإسرائيلي والفلسطيني.

تسمية السنوار رئيسًا للمكتب السياسي، تعني بوضوح نقل مركز القرار السياسي، بما في ذلك مستقبل "المفاوضات" لاحقًا، من قيادة سياسية توصف بالاعتدال النسبي "هنية" - كما وصفه العديد من المراقبين والشخصيات التي تعاملت معه عن كثب، بأنه محاور لبق وعصري - إلى أرفع مسؤول عسكري وميداني "السنوار"، الذي تضعه إسرائيل على رأس "قائمة الاغتيال" لديها، وهذا الأمر يضع نتنياهو أمام أصعب وأخطر سؤال على الإطلاق، ويتعين عليه الإجابة عنه وبشكل عاجل: مع مَنْ تحديدًا يمكن التواصل معه من الفلسطينيين حول صفقة تبادل الأسرى الإسرائيليين المحتملة؟!.

فالسنوار شخصية غامضة وسرية للغاية، أقرب إلى "الشبح"، لا يُعرف عنه الكثير، كما ذكرت قناة "بي بي سي" البريطانية الشهيرة، سوى أنه رجل "ذو شعر أبيض ناصع وحاجبين أسودين كثيفين"!، في إشارة ساخرة ولاذعة إلى حالة الفوضى والاضطراب التي خلفها تهور نتنياهو ومغامرته "الدعائية" الرعناء باغتيال الوسيط العلني إسماعيل هنية.

خاصة وأن تقييم الحكومة الإسرائيلية للسنوار، خلال فترة وجوده الطويلة في السجن - حيث قضى ما يقارب 23 عامًا خلف القضبان - بأنه شخصية " قاسية وصلبة، وموثوقة للغاية، وذات تأثير عميق، وتتمتع بقدرات فائقة على التحمل والصبر، وماكرة ومراوغة بشكل لا يصدق، وقنوعة بما تملكه، وتحافظ على الأسرار حتى داخل السجن بين السجناء الآخرين مهما كانت الظروف قاسية.. وتمتلك قدرة استثنائية على التعبئة والحشد والتنظيم".

فضلًا عن أنه أثناء وجوده في السجن، أتقن اللغة العبرية بطلاقة، وطور فهمًا عميقًا للثقافة والمجتمع الإسرائيليين، وفقًا لشهادات زملائه السجناء السابقين والمسؤولين الإسرائيليين الذين راقبوه عن كثب أثناء فترة سجنه الطويلة.

ويعتقد العديد من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين على حد سواء، أن السنوار قد استغل فهمه العميق لإسرائيل، والذي اكتسبه خلال سنوات اعتقاله الطويلة، لزرع بذور الانقسام والتفرقة في المجتمع الإسرائيلي، والتلاعب بنتنياهو وإحراجه أمام الرأي العام الإسرائيلي.

محصلة صفرية

حملت صدمة الاختيار تيارًا قويًا داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، دفعها إلى الاعتقاد الراسخ بأن عملية اغتيال هنية لم تحقق أي مكاسب تذكر، وكانت محصلتها "صفرًا" على صعيد الواقع العملياتي سواء سياسيًا أو عسكريًا، فبعد الإعلان الرسمي عن تعيين السنوار في منصبه الجديد، صرح مايكل ميلشتين، ضابط المخابرات الإسرائيلي السابق المتخصص في الشؤون الفلسطينية، قائلاً: "لقد تم رفع مكانته إلى مستوى رمزي عالٍ جدًا".. "ولكن في نهاية المطاف، كان هو بالفعل صاحب القرار النهائي بشأن الحرب والمفاوضات".

واللافت للنظر في المشهد الذي أعقب "زلزال السنوار"، هو الارتباك والتخبط الذي أصاب القيادة السياسية الإسرائيلية، التي تأخرت طويلًا وبشكل ملحوظ في التعليق على الوضع الجديد، الذي يضع نتنياهو وجهًا لوجه مع مهندس "طوفان الأقصى" الذي أدى إلى مقتل ما يقارب 1200 إسرائيلي، وأسر ما يقرب من 250 آخرين، وتسبب في اهتزاز صورة وهيبة المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وزعزعة الثقة في أسطورة "الجيش الذي لا يقهر".

إذ كان أول رد فعل إسرائيلي رسمي على هذا التطور الدراماتيكي، عصبيًا ومتوترًا بشكل واضح، ويعوزه الحصافة والرصانة الدبلوماسية المعهودة، وذلك على لسان وزير الخارجية الإسرائيلي المتطرف، يسرائيل كاتس، الذي دعا بشكل هستيري - مساء الثلاثاء - إلى "تصفية سريعة وفورية" ليحيى السنوار".. وكتب بتغريدة على منصة "إكس" المثيرة للجدل: "إن تعيين السنوار على رأس حماس خلفًا لإسماعيل هنية، هو سبب إضافي وحتمي لتصفيته بشكل سريع ومحو هذه المنظمة الإرهابية من الوجود".

وهي التصريحات التي سخر منها بتهكم لاذع، هيو لوفات، زميل السياسات البارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، معتقدًا عن يقين، أن قتل السنوار سيكون بمثابة "انتصار دعائي وإعلامي" لإسرائيل، أكثر من تأثيره الفعلي والحقيقي على قوة وحركة حماس.

وقال بكل ثقة: "من الواضح أنه سيكون خسارة بلا شك، ولكن سيتم استبداله على الفور، وهناك هياكل تنظيمية قائمة ومجهزة للقيام بذلك بكفاءة عالية، الأمر لا يشبه بأي حال من الأحوال قتل أسامة بن لادن، فهناك قادة سياسيون وعسكريون كبار آخرون داخل حماس قادرون على تولي المسؤولية".

وبالفعل فقد أثبتت التجارب مرارًا وتكرارًا، أن المنظمات غير الحكومية، تميل إلى العمل بمثل نظرية "قطع رؤوس الهيدرا" الأسطورية.

وبالمناسبة، هي النظرية التي وضعها الباحث الإسرائيلي المعروف، داني بروجوفيتش، ويمكن التعبير عنها بمعنى آخر (قصّ الاعشاب): كلما قُطع رأس من رؤوسه التسعة نبت مكانه رأسان جديدان.. فإذا تم اغتيال قائد العمليات أو القائد الصوري يتم استبداله سريعًا بآخر، وفي بعض الأحيان يفتقر من يخلفه إلى نفس الخبرة أو المصداقية، لكن المنظمة تكون غالبًا قوية وقادرة على تجديد نفسها بشكل أو بآخر.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة